رسالة فنية للتشكيلية سناء هيشر
أخبار عامة

رسالة فنية للتشكيلية سناء هيشري عبر كتابها الفني “نضال من ألوان”

المرأة: التجسد الجمالي للنضال

سيد عبد الرازق

عن دار “نقوش عربية” صدر مؤخرا كتاب “نضال من ألوان” للفنانة التشكيلية البلجيكية من أصل تونسي “سناء هيشري”، يضم الكتاب بين طياته مزجا مركبا بين اللوحات الفنية، وقصص الزمان والمكان، وفنون النحت والشعر والخط العربي، مستثمرا هذا المزيج مع المواد والخامات الحديثة لإنتاج معرض فني يصور حالة النضال الأنثوي الإنساني؛ مستقيا من التاريخ والواقع والخيال هوية هذا النضال وتأثيرية رموزه.

رسالة فنية للتشكيلية سناء هيشر لأن الفن التشكيلي فن وجد مع وجود الإنسان منذ زمن (النيانتردال) رجل الكهف والعصر الحجري على حد تعبير محمد منيف، فقد شمل الكتاب امتدادا تاريخيا للنساء اللائي جسدن هذه الحالة الجمالية للنضال، ولم تتأطر هذه التاريخية التي اشتملت عليها اللوحات بإطار معين، وإن انحصرت في النساء المناضلات اللاتي استقتهن الفنانة سناء هيشري – ومن ثم طالباتها – من التاريخ الإنساني أو صغنهن من الخيال، وإنما امتدت جغرافيا وميدانيا.

بالطبع فالتقنيات والألوان والخامات عنصر رئيس في رسم اللوحات وتبرز مدى ثراء اللوحة، لكن العمق الثقافي لاختيار موضوعات اللوحات كان ملفتا للنظر وبشدة، فقد تناولت اللوحات أبعادا ثقافية واجتماعية وسياسية ضاربة في العمق، لتناقش اللوحات قضايا نضال كان لها بالغ التأثير في تاريخنا العربي مثل باحثة البادية والتي اتسمت لوحتها بتسليط طاقة أشعة ضوئية ذات ألوان مختلفة تعمل على تراسل ونقل هذه الحالة المقاومة إلى نفسية المتلقي، وتأتي بلقيس الملكة التاريخة مكللة بلون الشمس الباحث عن المعرفة والصادر عن قوة الفكر ورجاحة الذهن في الموقف العقدي والتاريخي الذي أثبته لها القرآن الكريم، وتتجسد الملكة صنهاجية ملكة تونس في العصر الزيري بقوها وصلابتها وحكمتها.

لا أجدني إلا متفقا مع بيكاسو حين قال: “إن الفن لم يخلق لتزيين الغرف، إنه آلة يستخدمها الإنسان من أجل الحرب والدفاع ضد الأعداء، وكما بدا لنا من خلال المعارك التي مضت أنه على الإنسان أن يقاتل كل ما يهدد حرية التعبير”، من هنا يبدو إيمان الفنانة سناء هيشري بأن نضال المرأة جزء من حرية التعبير التي تقاتل من أجلها وتفتخر من خلالها بعروبتها وأصلها ولغتها العربي، لكنها لا تنسى القاسم المشترم الأعلى الإنساني فتصور المقاومة الأنثوية إنسانيا وعالميا فنرى “سندريلا” الأيقونة الخالدة في ذهن الكرة الأرضية حول التحمل والمثابرة، بتناول فني جديد يستشف عالم الروح الوثابة عبر ألوانه وتقنية رسمه.

فاجأني في هذا المضمار تساؤل ينم عن تفكير فذ وزاوية تناول مدهشة “ماذا لو أن تشي جيفارا كان أنثى؟” في لوحة “دائما حتى النصر”، وكأن المبدعة سناء هيشري تؤكد على أن قيم الانتماء والولاء والتضحية حاضرة متأصلة في المرأة، لا يدلل على ذلك التاريخ العربي بل والإنساني أيضا، وهو ما سعت لتأكيده عبر لوحات أخرى مثل “حسناء قرطاج” التي تسرد بألوانها موقف صوفونيسبا الأميرة القرطاجية التي أبت الهوان والذل والانقياد، ولوحة “عليسة التاريخية” مؤسسة قرطاج وملكتها الأولى، وامتد ذلك إلى لوحات طالبات سناء هيشري مثل لوحتي “الكاهنة – حسناء جنوة” للفناة سهيلة القطي، وغيرها.

أفريقيا أيضا كانت حاضرة وبقوة في هذا الكتاب الذي يمثل معرضا فنيا باذخا ممتلئا بالدهشة والتفرد، أفريقيا السمراء التي عانت طويلا تحت نير الاستعمار والاستبداد وما زالت تنتهب ثرواتها وتستلب إمكاناتها، وما زالت تصور حالة الأنثى السمراء المناضلة التي تسعى لاكتساب حقوقها كاملة رافضة الهيمنة ومدافعة عن تاريخها الإنساني الطويل، حضرت أفريقيا “بالألوان .. التاريخ الذي لم يرسم بعد”، ثم تتجلى حالة النضال الأنثوي الأفريقي في لوحة “الجمال هو ما يرسم الفنان وما يكتبه الشعراء” حين تستلهم المبدعة سناء هيشري من الشعر لتجسد أفريقيا، و”تكرم بالألوان المرأة الأفريقية” ليكون الفوشيا الفاقع والأصفر الكناري حاضرا في المشهد الأفريقي، بل يتطور هذا الموقف الإنساني إلى حد أبعد حين تبرهن على أن أندروميدا الأميرة الإثيوبية لم تكن تلك الفتاة التي قدمتها الشاشات الغربية وإنما هي الأميرة الإثيوبية الأفريقية السمراء التي تحمل وهج هذي الأرض وعبق تاريخها في لوحة “أندروميدا السوداء”؛ إيمانا منها بأن “سيدات أفريقيا هن ملكات تتربعن على عرش الألوان الحارة” على حد تعبير المبدعة.

قرر محمود درويش حقيقة أجدها تتجلى في “نضال من ألوان” حين قال: ” هزمتك يا موت الفنون جميعها… هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين، مِسلة المصري، مقبرة الفراعنةِ، النقوش على حجارة معبدي هزمتْك وانتصرتْ، وأفْلت من كمائنك الخلود” لقد هزمت لوحات هذا الكتاب موت المناضلات عبر تخليدهن لتصبح “المرأة زهرة الحياة” والتي شاع فيها اللون الأخضر تجسيدا لهذه الحياة، وتنقش “بصمة حواء”، وتكرر فعل الوجود عبر “حواء العربية”، وتمتد في “امرأة تخلد في التاريخ”، و”نادرة هي” تلك اللوحة التي مزجت فنون الرسم والنحت والمواد والخامات الحديثة.

لم يكن الشعر غائبا روحا ولونا في اللوحات، فإن المرأة التي تفتخر بعروبتها وأصلها ولغتها العربية ما انفكت تستحضر الشعر وتستلهم منه لوحات نضالها الأنثوية، كلمات الشاعرة السورية بهيجة مصري إدلبي “اخرج إلينا وتنفس من رئات الناس شعرا … لا تكن طفلا عنيدا … سنطمئن السمراء أنك لا تزال تحبها، ولسوف ترجع حاملا أوراقك الزرقاء ترفعها سماء” كانت هذه الكلمات وراء ولادة لوحة “الجمال… هو ما يرسمه الفنان وما يكتبه الشعراء”، كما استلهمت في استثمار فريد وذكي للغالية الألوان من قصيدة سفي الدين الحلي (بيض صنائعنا، خضر مرابعنا ** سود وقائعنا، حمر مواضينا) والتي هي انعكاس للعلم الإماراتي لتجسد لوحة “الوحدة العربية وشموخ امرأة” وهي المرأة التونسية الأصل، التي طافت البلاد العربية خاصة الإمارات العربية المتحدة وتتماس دبي تحديدا بخط حياتها تماسا كبيرا، وانعكست تلك الألوان المستوحاة شعرا من الموحدة العربية جغرافيا ومواقف ونضالا وفعالا على لوحتها الفذة، وأيضا في لوحة “سعودية القرن 2030” والتي تستشرف فيها مآلات النضال النسوى في المملكة، انسحبت هذه الحالة الشعرية جنبا إلى جنب مع الروح المناضلة على لوحة “حنين” التي اللوحة التي كانت نتاجا للقاء جمع مبدعتنا مع “حنين السورية” في بارك إيغمونت، والتي تعبر عن الكثيرات اللواتي اضطرتهن الحرب وويلاتها إلى الشتات والتهجير، إنهن في عيون سناء هيشري لست مجرد لاجئات أو نازحات وإنما هن مناضلات حملن الحضارة العربية والثقافة العربية إلى بروكسيل حتى تتحقق أحلامهن في دمشق التي بناها نزار قباني على طرازه الشعري في قصيدته المشهور ترصيع بالذهب على سيف دمشقي حين قال “ها هي الشام بعد فرقة دهر… أنهر سبعـة، وحـور عين”.

انطلاقا من وعي الفنانة سناء هيشري بأن التشكيل بالخط له فرادته لما له من خصائص تميزه عن خطوط اللغات الأخرى، فهو قابل للتشكيل كما أن حروفه قابلة ومطاوعة للمد والوصل والفصل والإطالة والاختزال، كما تتنوع كيفية رسم الحرف الواحد حسب موقعه من الكلمة ونوع الخط الذي كتب به وتبعا لذلك تتنوع جمالياته في الرسم، لذا كان الكاليجرافي وهو كتابة الحروف العربية المزخرفة وترتيبها بشكل جمالي فني حاضرا في اللوحات سواء اللوحات الخاصة بسناء هيشري أو بطالباتها؛ لأنها توقن أن المزج بين اللون والخط العربي يسهم في التعريف بتقنيات الحروف العربية وفنون الخط الأخرى، ما كونه يعطي أبعادا دلالية وجمالية على السواء.